كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوعظ: كلام فيه تحذير من مكروه وترغيب في ضده.
وتقدم عند قوله تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظةً وتفصيلًا لكل شيء} في سورة الأعراف (145)، وقوله: {يعظكم اللَّه} في سورة النور (17).
وواحدة صفة لمحذوف يدل عليه المقام ويفرضه السامع نحو: بخصلة، أو بقضية، أو بكلمة.
والمقصود من هذا الوصف تقليلها تقريبًا للأفهام واختصارًا في الاستدلال وإيجازًا في نظم الكلام واستنزالًا لطائر نفورهم وإعراضهم.
وبنيت هذه الواحدة بقوله: {أن تقوموا لله مثنى وفرادى} إلى آخره، فالمصدر المنسبك من {أن} والفعل في موضع البدل من {واحدة} أو قُل عطف بيان فإن عطف البيان هو البدل المطابق.
وإنما اختلف التعبير عنه عند المتقدمِين فلا تَخُضْ في محاولة الفرق بينهما كالذي خاضوا.
والقيام في قوله: {أن تقوموا} مراد به المعنى المجازي وهو التأهب للعمل والاجتهاد فيه كقوله تعالى: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} [النساء: 127].
واللام للتعليل، أي لأجل الله ولذاته، أي جاعلين عملكم لله لا لمرضاة صاحب ولا عشيرة، وهذا عكس قوله تعالى: {وقال إنما اتخذتم من دون اللَّه أوثانًا مودّةً بينكم} [العنكبوت: 25]، أو لأجل معرفة الله والتدبر في صفاته.
وكلمة {مثنى} معدول بها عن قولهم: اثنين اثنين، بتكرير كلمة اثنين تكريرًا يفيد معنى ترصيف الأشياء المتعددة بجعل كل ما يُعدّ بعدد اثنين منه مرصفًا على نحو عدده.
وكلمة {فرادى} معدول بها عن قولهم: فردًا فردًا تكريرًا يفيد معنى الترصيف كذلك.
وكذلك سائر أسماء العدد إلى تسع أو عشر ومنه قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وتقدم في سورة النساء (3).
وانتصب {مثنى وفرادى} على الحال من ضمير {تقوموا} أي أن تكونوا في القيام على هذين الحالين فيجوز أن يكون المعنى: أن تقوموا لحق الله وإظهاره على أي حال من اجتماع وانفراد، فيكون {مثنى} كناية عن التعدد وهو من استعمال معنى التثنية في التكرر لأن التثنية أول التكرير فجعل التكرر لازمًا للتثنية ادعاء كما في قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرّتين ينقلبْ إليك البصرُ خاسئًا وهو حسير} [الملك: 4] فإن البصر لا يرجع خاسئًا من إعادة نظرة واحدة بل المراد منه تكرير النظر، ومنه قولهم: لبَّيك وسَعديك، وقولهم: دواليكَ.
ويجوز أن يكون المعنى أن تقوموا لحق الله مستعينًا أحدكم بصاحب له أو منفردًا بنفسه فإن من أهل النظر من ينشط إليه بالمدارسة ما لا ينشطه بالخَلوة.
ومنهم من حاله بعكس هذا، فلهذا اقتصر على {مثنى وفرادى} لأن ما زاد على ذلك لا اضطرار إليه.
وقدم {مثنى} لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يُغالِط فيه صاحبُ هوىً ولا شبهةٍ ولا يخشى فيه الناظر تشنيعًا ولا سمعة، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع، وهؤلاء بما يلازم نواياهم من الخبث تصحبهم جُرأة لا تترك فيهم وازعًا عن الباطل ولا صدًّا عن الاختلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأٍ، ولا حياء يهذبُ من حِدّتهم في الخصام والأذى، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا {مثنى وفرادى} فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرْضَ لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رَأيًا فسلم كلاهما من غش صاحبه.
وحرف {ثمّ} للتراخي في الرتبة لأن التفكر في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أهم في إصلاح حال المخاطبين المعرضين عن دعوته، بخلاف القيام لله فإنهم لا يأبَوْنه.
والتفكر: تكلف الفكر وهو العلم، وتقدم عند قوله تعالى: {أفلا تتفكرون} في الأنعام (50).
وقوله: {ما بصاحبكم من جنة} نفي يُعلّق فعلَ {تتفكروا} عن العمل لأجل حرف النفي.
والمعنى: ثم تعلَموا نفي الجنون عن صاحبكم، أي تعلموا مضمون هذا.
فجملة {ما بصاحبكم من جنة} معمولة ل {تتفكروا}.
ومن وقف على {تتفكروا} لم يتقن التفكر.
والمراد بالصاحب: المخالط مطلقًا بالموافقة وبالمخاصمة، وهو كناية عن التبصر في خُلقه كقول الحجّاج في خطبته للخوارج ألستُمْ أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدْر واستبطنتم الكفر يعني فلا تخفى عليّ مقاصدكم.
وتقدم في قوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة} في سورة الأعراف (184).
والتعبير {بصاحبكم} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: ما بي من جِنّة إذ الكلام جار على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفًا.
وفائدته التنبيه على أن حاله معلوم لديهم لا يلتبس عليهم لشدة مخالطته بهم مخالطة لا تَذَر للجهالة مجالًا فهم عرفوه ونشأ بينهم حتى جاءهم بالحق فهذا كقوله: {فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16].
والاقتصار في التفكر المطلوب على انتفاء الجِنة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أن أصل الكفر هو الطعن في نبوءته وهم لما طعنوا فيه قالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كاذب.
فابتدىء في إرجاعهم إلى الحق بنفي الجِنّة عنه حتى إذا أذعنوا إلى أنه من العقلاء انصرف النظر إلى أن مثل ما جاء به لا يأتي به إلا عاقل وهم إنما ابتدأوا اختلاقهم بأنه مجنون كما جاء في القرآن، قال تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] في السورة الثانية نزولًا.
وقال: {وما صاحبكم بمجنون في السورة السابعة} [التكوير: 22] وذلك هو الذي استمرّوا عليه قال تعالى: {ثم تولّوا عنه وقالوا معلّم مجنون} [الدخان: 14] إذ دعوى الجنون أروج بين أهل مكة لأن الجنون يطرأ على الإِنسان دفعة فلم يجدوا تعلة أقرب للقبول من دعوى أنه اعتراه جنون كما قالت عاد لهود: {إِن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54]، وقالت ثمود لصالح: {قد كنت فينا مَرجُوًّا قبل هذا} [هود: 62].
فبقيت دعواهم أنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر وأنه كاذب حاشاه.
فأما السحر والكهانة فسهل نفيهما بنفي خصائصهما؛ فأما انتفاء السحر فبيّن لأنه يحتاج إلى معالجة تعلّم ومزاولة طويلة والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم لا يَخفى عليهم أمره، وأما الشعر فمسحته منفية عن القرآن كما قال الوليد بن المغيرة، فلم يبق في كنانة مطاعنهم إلا زعمهم أنه كاذب على الله، وهذا يزيفه قوله: {بصاحبكم} فإنهم عرفوه برجاحة العقل والصدق والأمانة في شبيبته وكهولته فكيف يصبح بعد ذلك كاذبًا كما قال النضر بن الحارث: فلما رأيتم الشَيْب في صدغيه قلتُم شاعر وقلتم كاهن وقلتم مجنون، ووالله ما هو بأولئكم.
وإذا كان لا يكذب على الناس فكيف يكذب على الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله: هل جربتم عليه كذبًا قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا.
قال: فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.
ومن أجل هذا التدرج الذي طُوي تحت جملة {ما بصاحبكم من جنة} أعقب ذلك بحصر أمره في النذراة بقرب عذاب واقع، أي في النذارة والرسالة الصادقة.
قال في الكشاف: أي مثل هذه الدعوى لا يتصدى لها إلا رجلان: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وإما عاقل راجح العقل لا يدعي مثله إلا بعد صحته بالحجة، وإلا فما يجدي العاقل دعوى شيء لا بينة عليه وقد علمتم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما به من جِنّة بل علمتموه أرجح قريش عقلًا وأرزنَهم حِلمًا وأثقبهم ذهنًا وآصلهم رأيًا وأصدقهم قولًا وأجمعهم لما يُحمد عليه الرجال فكان مظنة لأن تظنّوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب. اهـ.
فالقصر المستفاد من {إن هو إلا نذير لكم} قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًا، أي هو مقصور على صفة النذارة لا تحوم حوله الأوصاف التي لمزتموه بها.
ومعنى {بين يدي عذاب} القرب، أي قرب الحصول فيقتضي القبلية، أي قبل عذاب، وقد تقدم آنفًا في هذه السورة، والمراد عذاب الآخرة.
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}.
هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم: كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا أنه يريد بهذه الدعوة نفعًا لنفسه يكون أجرًا له على التعليم والإِرشاد.
وهم لما ادّعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض لجائزة الشاعر، وحُلوان الكاهن؛ فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن، إلا أن يزعموا أنه يطلب أجرًا على الإِرشاد فقيل لهم: {ما سألتكم من أجر فهو لكم} إن كان بكم ظنّ انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه، فما كان لي من أجر عليه فخذوه.
وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له، فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجرًا {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} [ص: 86، 87] أو إن كنت سألتكم أجرًا فلا تعطونيه، وإن كنتم أعطيتم شيئًا فاستردّوه، فكُنِّي بهذا الشرط المحقّق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالبًا أجرًا منهم على حدّ قوله تعالى: {إن كنت قلته فقد علمته} [المائدة: 116].
وهذا ما صرح به عقبه من قوله: {إن أجري إلا على الله} فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدلّ على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر؛ على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفائه في المستقبل أيضًا.
وهذا جار مجرَى التحدِّي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجرًا منهم لجَارُوا حين هذا التحدّي بمكافحته وطالبوه بردّه عليهم.
وينتقل من هذا إلى تعين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب، وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أجرًا أو يتطلب نفعًا لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يريد جزاء منهم.
و {مَا} يجوز أن تكون شرطية، و {من أجر} بيانًا لإِبهام {ما} وجملة {فهو لكم} جواب الشرط.
ويجوز أن تكون {ما} نافية.
وتكون {من} لتوكيد عموم النكرة في النفي، وتكون الفاء في قوله: {فهو لكم} تفريعًا على نفي الأجر، وضمير هو عائدًا على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} [سبأ: 43] أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله: {ما سألتكم من أجر} يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة.
ويكون معنى الآية نظيرَ معنى قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} [ص: 86، 87].
والأجْر تقدم عنه قوله تعالى: {ليجزيك أجر ما سقيت لنا} في سورة القصص (25).
وجملة {إن أجري إلا على الله} مستأنفة استئنافًا بيانيًا جوابًا لسؤال مقدر أن يسأل السامع: كيف لا يكون له على ما قام به أجر، فأجيب بأن أجره مضمون وَعَده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره.
وحرف {على} يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وَعده الصادق، ثم ذيّل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها، وعليم بخفاياها فهو من باب: {قل كَفى بالله شهيدًا بيني وبينكم} [الرعد: 43] أي وهو شاهد على ذلك كله.
والأجر: عوض نافع على عمل سواء كان مالًا أو غيره.
وقرأ نافع وأبو عَمرو وابن عامر وحفص ياء {أجريَ} مفتوحة.
وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة، وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإِضافة.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)}.
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم.
وأعيد فعل {قل} للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفًا.
والتأكيد لتحقيق هذا الخبر.
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده.
فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد.
وهذا الاختصاص باعتبار ما في {يقذف بالحق} من معنى: الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.
والقذف: إلقاء شيء من اليد، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه.
والمعنى: أن ربي يقذفكم بالحق.
أو هو إشارة إلى قوله: {بل نقذف بالحق على الباطل} [الأنبياء: 18] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين.
وتخصيص وصف {علام الغيوب} من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترىء على الله بادعائه باطلًا أنه أرسله إليكم، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري.
ويجوز أن يكون معنى: {يقذف بالحق} يرسل الوحي، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [غافر: 15] ويكون قوله: {علام الغيوب} إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون: لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.
وارتفع {علام} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو علاّم الغيوب، أو على أنه نعت لاسم {إنّ} إما مقطوع، وإما لمراعاة محل اسم {إنّ} حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق.
وقال الفراء: رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب.
ومثَّله بالبدل في قوله تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} [ص: 64].
وقرأ الجهور {الغيوب} بضم الغين.
وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في بَاء {بيوت}.
{قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}.
أعيد فعل {قل} للاهتمام بالمقول كما تقدم آنفًا.
وجملة {قل جاء الحق} تأكيد لجملة {قل إن ربي يقذف بالحق} [سبأ: 48] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإِسلام.
وعُطف {وما يبدىء الباطل وما يعيد} على {جاء الحق} لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حلّ فيه الحق.
و {يبدىء} مضارع أبدأَ بهمزة في أوله وهمزة في آخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة: أجاء، وأسرى.
وإسناد الإِبداء والإِعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة.
ومعنى {ما يبدىء الباطل وما يعيد} الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى: {إن الباطل كان زهوقًا} في سورة الإِسراء (81).
وذلك أن الموجود الذي تكون له آثارٌ إمّا أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إِبداء ولا إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون ما يبدىء وما يعيد كناية عن الهلاك كما قال عَبيد بن الأبرص:
أفقر من أهله عَبيد ** فاليوم لا يُبدي ولا يعيد

يعني نفسه.
ويقولون أيضًا: فلان ما يبدىء وما يعيد، أي ما يتكلم ببادئة ولا عائدة، أي لا يرتجل كلامًا ولا يجيب عن كلام غيره.
وأكثر ما يستعمل فعل أبدأ المهموز أوله مع فعل أعاد مزدوجين في إثبات أو نفي، وقد تقدم قوله تعالى: {أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده} في سورة العنكبوت (19). اهـ.